مغامرة الفكر وحدود الخوف: الكتابة كفعل تحرر


كتب رياض الفرطوسي
في عالمٍ يزخر بالخوف والقيود، تصبح الكتابة مغامرةً لا تقل جرأةً عن القفز في الفراغ. إنها فعلُ تحررٍ من الأطر الجاهزة، ونبشٌ في المسكوت عنه، وتعريةٌ للمألوف حتى تتبدّى هشاشته أو تتأكد صلابته. الكاتب الذي يخوض هذا المسار لا يسير على أرضٍ مستوية، بل يضع قدمه على حافة الهاوية، حيث لا شيء مضمون سوى الاكتشاف.
فراس السواح، في كتابه “مغامرة العقل الأولى”، يجسد هذا التحدي، إذ لا يكتفي بسرد الأساطير، بل يعيد تفكيكها وتجميعها وفق منطق البحث والتأمل، وليس وفق التسلسل الزمني أو الجغرافي التقليدي. إنه يعيد ترتيب الأساطير وفق ثيماتها الجوهرية، ليكشف كيف ظل العقل البشري عبر العصور يعيد طرح الأسئلة ذاتها: الخلق، الطوفان، الخطيئة، الخلاص، وما بعد الموت. فالأسطورة، كما الفكر، مغامرة دائمة في المجهول، وليست مجرد مرويات جامدة محنطة في الكتب القديمة.
الكتابة: اختبار الشجاعة الفكرية.
لكن هل يستطيع المقموع أن يغامر؟ هل يمكن لمن كُبّلت روحه بالخوف، ونُحتت قناعاته في قالب صلب، أن يخوض هذا العبور الجريء نحو المجهول؟ الكاتب السوري محمد الماغوط يجيب بسخرية سوداء: “لو سقطتُ من فوق الكرسي، أحتاج إلى ملايين السنين الضوئية لكي أصل إلى الأرض”. إنها صورة بليغة للشلل الداخلي الذي يعانيه العقل المكبل، حيث لا تكون السقطة سقوطاً فيزيائياً، بل انهياراً في متاهات القلق والرعب من كسر السياج.
إن الحداثة الغربية، بكل إرثها الفلسفي والإبداعي، قامت على هذه المغامرة الفكرية؛ على أسئلة الذات المحرجة، وليس على الهروب والمواربة. لقد تشكلت على أيدي أفرادٍ لم يهابوا الخروج عن السائد، وواجهوا القيود المجتمعية بجرأة السؤال، وليس بالخضوع لمنطق القطيع. قيل عنهم إنهم “مجانين”، لكن جنونهم كان إبداعياً، لا خبلًا فارغاً أو تهوراً بلا بصيرة. لقد امتلكوا شجاعة إعادة النظر في كل شيء، فتجاوزوا القوالب الجاهزة وساروا في دروب جديدة، لأنهم لم يكونوا عبيداً لماضٍ مقدس أو تقاليد بالية.
ما بين الأدب والصدق.
في المقابل، كيف يمكن لمجتمعاتٍ غارقةٍ في الخوف والمراوغة أن تُنتج فكراً حياً؟ إن الكتابة، في جوهرها، فعل تضامن مع التاريخ والإنسان، كما يقول رولان بارت، وهي لحظة يُصبح فيها الكاتب مسؤولًا عن أثر كلماته في وعي القارئ. الأدب الرديء هو خداع أخلاقي، لأن الكلمة ليست مجرد أداة للزخرفة، بل وسيلةٌ لإحداث التحول وكشف المستور.
الحياة لم تتغير بالصمت، بل بالكلمات التي كسرت الحواجز وأشعلت العقول. الأدب ليس تهويماً في الفراغ، بل صرخة تزلزل الثابت، وتعيد ترتيب الرؤية. إن أعظم النصوص ليست تلك التي تريح القارئ، بل التي تهزه وتجعله يعيد النظر في مسلّماته. فالحداثة لم تُبنَ بالصمت والتقليد، بل بالمغامرة والمراجعة والتجاوز، وبالاستعداد لتحمل تبعات المواجهة.
نحو فكر أكثر جرأة.
لماذا لا نعيد تعريف الشجاعة الأخلاقية بحيث تصبح المغامرة الفكرية جزءاً منها؟ لماذا نصرّ على اعتبار كل خروجٍ عن المألوف ضرباً من الانحراف؟ البحث، الإبداع، الشجاعة الأدبية، كشف الأقنعة، ومساءلة المسلمات، كلها ليست رفاهيات، بل جوهر الأخلاق والشرف الحقيقي.
العالم، لولا هؤلاء المجانين العظماء، لظل مساحةً أكثر ظلمةً ووحشية. يمكننا تخيّل مجتمعات بلا سقراط، بلا نيتشه، بلا دوستويفسكي، بلا رامبو، بلا جبران… إنها مجتمعات متحجرة، صامتة، لا تعرف سوى تكرار ذاتها. هؤلاء الذين تجاسروا على الخروج عن السياق، لم يكونوا مجرد مفكرين أو أدباء، بل كانوا مشاعل حرية في نفق التاريخ الطويل.
في النهاية، الكتابة الحقيقية ليست ترفاً ولا محاكاةً شكلية. إنها مغامرة. إنها قفزةٌ إلى المجهول، حيث لا ضمانات سوى بصيص ضوء في آخر النفق. السؤال هو: هل لدينا الشجاعة للقفز؟