كيف نعيد تشكيل وعينا لبناء مستقبل أفضل؟


كتب رياض الفرطوسي
في المجتمعات التي مرت بتجارب قمعية، يواجه الأفراد تحدياً كبيراً في إعادة تشكيل وعيهم للخروج من دوائر الخوف والانغلاق إلى آفاق أوسع من الحرية والتفاعل الصحي. إن بناء مجتمع جديد لا يمكن أن يتم دون مراجعة جذرية لكيفية تشكّل الوعي الجمعي، وتحريره من القيود النفسية والاجتماعية التي فرضتها فترات الاستبداد . عندما تُفرض القيود على الفكر والتعبير، يصبح الوعي مشوشاً ومنقسماً بين واقع ظاهري يفرضه النظام القائم، وواقع داخلي يلجأ إليه الأفراد للهروب والتنفيس عن مكبوتاتهم. هذا الازدواج يؤدي إلى خلق بيئة من الانفصال النفسي والاجتماعي، حيث يصبح الصدق مع الذات والآخرين أمراً نادراً. إعادة قراءة الوعي تعني تفكيك هذه الازدواجية وإيجاد مساحة يتلاقى فيها الفكر والممارسة بحرية ومسؤولية . بدلًا من أن تؤدي التجارب القمعية إلى إعادة إنتاج العنف أو العزلة، يمكن استثمارها كدروس لبناء مجتمع أكثر عدالة. التاريخ مليء بالشعوب التي تجاوزت أزمنة الاستبداد من خلال تبني مفاهيم جديدة للحوار والمشاركة، مما أدى إلى بناء مجتمعات أكثر نضجاً ومرونة. التغيير يبدأ من الأفراد عندما يتحول الوعي الجمعي من مجرد رد فعل إلى قوة دافعة نحو الإصلاح والتطوير . الأنظمة القمعية تزرع في الأفراد الخوف كآلية للتحكم والسيطرة، مما يجعل الناس يعتادون على الصمت والتكيف مع الظلم بدلاً من مواجهته. إعادة بناء المجتمع تتطلب التحول من وعي الخوف إلى وعي المسؤولية، بحيث يدرك كل فرد دوره في صناعة الواقع الجديد. هذا يتطلب تنمية مهارات التفكير النقدي والاستقلالية في اتخاذ القرار، بدلاً من الاعتماد على أنماط الطاعة والانقياد . التغيير الحقيقي يبدأ من التربية والتعليم. لا يكفي إسقاط النظم القديمة، بل يجب بناء نظام ثقافي وتعليمي يعزز قيم الحرية والتسامح والإبداع. يجب أن يتم تدريب الأفراد منذ الصغر على التفكير المستقل والنقاش المفتوح، ليكونوا قادرين على بناء مجتمع يحترم التنوع ويشجع الابتكار . اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي انعكاس لطريقة التفكير. في المجتمعات التي عاشت في ظل الاستبداد، تصبح اللغة مليئة بالشعارات والمصطلحات الجامدة التي تعيق التفكير الحر. إعادة قراءة الوعي تتطلب تحرير اللغة من الخطابات المتصلبة، واستبدالها بأسلوب نقدي يفتح المجال للتعددية الفكرية والتعبير الصادق . المجتمعات التي تسعى للتحرر الحقيقي لا تبني واقعاً جديداً على أنقاض الماضي فقط، بل تستفيد من دروسه لتجنب إعادة إنتاج نفس الأخطاء. بناء مجتمع جديد يتطلب تجاوز الثنائيات الحادة (الموالي والمعارض، القوي والضعيف، القامع والمقموع) والانتقال إلى وعي أكثر شمولًا، يعترف بحق الجميع في المشاركة دون إقصاء أو تهميش . إعادة قراءة الوعي ليست ترفاً فكرياً، بل هي شرط أساسي لأي تغيير حقيقي ومستدام. المجتمعات التي تنجح في تجاوز إرث القمع هي تلك التي تعيد بناء وعيها على أسس جديدة من الحرية والعدالة والمشاركة. التحدي الأكبر ليس فقط في التخلص من مخلفات الأنظمة القمعية، بل في منع إعادة إنتاجها داخل العقول والسلوكيات، ليصبح التغيير دائماً ومتجذراً في ثقافة المجتمع .