إحياء الوعي واستعادة الدور الثقافي: رؤية لإصلاح المشهد الفكري في العراق


كتب رياض الفرطوسي
” لا حرية بلا ركوب الخطر” – بهذه الكلمات لخص الفيلسوف جان جاك روسو جوهر التحولات الكبرى التي شهدها التاريخ. لقد كان أحد الذين لم يكتفوا بوصف الواقع، بل سعوا إلى تغييره من خلال الفكر والتنوير. رؤيته للعقد الاجتماعي أسست لمفاهيم الديمقراطية الحديثة، حيث تقوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على التوازن بين الحقوق والواجبات. هذه الأفكار لم تكن سهلة القبول في زمانه، لكنها شكلت حجر الأساس لعصر جديد . اليوم، حين ننظر إلى العراق، نجد أن البلاد تمتلك ثروة فكرية وثقافية هائلة، لكنها لم تستثمر بالشكل الذي يخدم المجتمع ويعزز الهوية الوطنية. المشهد الثقافي يعاني من تحديات عديدة، ليس بسبب غياب العقول المبدعة، بل بسبب غياب آليات حقيقية لدعمها وتمكينها . ان من اهم التحديات التي تواجه الفكر والثقافة في العراق :
اولا. غياب الاستراتيجية الثقافية الفاعلة : لا يمكن لأي دولة أن تنهض دون رؤية واضحة لدور الثقافة والإعلام في بناء الوعي. العراق بحاجة إلى مشروع ثقافي متكامل، يُعنى بتطوير المؤسسات الفكرية ودعم الإنتاج الإبداعي، بحيث يكون جزءاً أساسياً من عملية التنمية.
ثانيا. تراجع دور الإعلام الثقافي والتنويري : الإعلام ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو أداة لبناء الوعي وصياغة الرأي العام. القنوات الرسمية تمتلك إمكانيات هائلة، لكنها بحاجة إلى إعادة هيكلة تستقطب الطاقات الإعلامية المؤثرة، وتمنح مساحة لصوت المثقف العراقي والعربي، بدل أن تبقى محصورة في دوائر محدودة .
ثالثا. العزوف عن القراءة والتفكير النقدي : واحدة من الإشكاليات الكبرى اليوم هي أن المعرفة أصبحت بالنسبة للكثيرين ترفاً وليس ضرورة. إعادة إحياء ثقافة القراءة والنقد والتفكير المستقل تتطلب دعم المؤسسات التعليمية، وتوفير محتوى ثقافي جذاب قادر على التأثير في الأجيال الجديدة .
إن تحقيق نهضة فكرية حقيقية في العراق يتطلب مجموعة من الإصلاحات التي يمكن أن تعيد بناء المشهد الثقافي ليكون ركيزة أساسية في عملية التنمية منها :
ا. تطوير المؤسسات الثقافية والإعلامية بحيث تكون بيئة جاذبة للمفكرين والمبدعين، بعيداً عن المحاصصة والانغلاق، وتعتمد على الكفاءة والإبداع كأساس للاختيار.
ب. دعم الإنتاج الأدبي والفني والفكري من خلال توفير منصات للنشر والتوزيع، وتعزيز دور المكتبات والمسارح والمنتديات الثقافية .
ت. تحفيز الإعلام على الانفتاح واستضافة الشخصيات الفكرية المؤثرة، بحيث يكون منصة للتوعية والتنوير، لا مجرد وسيلة لنقل الأخبار التقليدية.
ث. الاستثمار في التعليم الثقافي من خلال تطوير المناهج التي تعزز التفكير النقدي والإبداعي، وتجعل من الثقافة جزءاً أساسياً من الحياة اليومية .
إن إعادة الاعتبار للثقافة والفكر ليست مسؤولية جهة واحدة، بل هي مسؤولية مجتمعية تتطلب تكاتف الجميع، من مؤسسات الدولة إلى الأفراد. العراق يمتلك من العقول والإمكانات ما يؤهله ليكون مركزاً ثقافيًا عربياً وعالمياً، لكن ذلك لن يتحقق دون رؤية واضحة تستثمر في الإنسان باعتباره الثروة الحقيقية لأي بلد. روسو وغيره من المفكرين لم يغيّروا واقعهم بالسلاح، بل بالكلمة والفكرة. واليوم، نحن بحاجة إلى مشروع ثقافي يعيد العراق إلى مكانته الطبيعية كمنارة فكرية في المنطقة، مشروع يؤمن بأن النهضة الحقيقية تبدأ من العقل، ومن حرية التفكير والإبداع.