بين الصفاء والضياع: رحلة البحث عن الذات في عالم متشظٍ


كتب رياض الفرطوسي
في قلب هذا العالم الصاخب، حيث تتصادم الأصوات وتتلاقى الوجوه في فوضى عارمة، يجد الإنسان نفسه واقفاً على حافة تناقضٍ وجودي. من ناحية، هناك الصفاء، ذلك النقاء الذي يولد معنا كقطرة ماء تسقط من السماء، صافيةً لا تشوبها شائبة. ومن ناحية أخرى، هناك الضياع، حيث تتراكم طبقات من الزيف والتلون، حتى يصبح القناع جزءاً لا يتجزأ من الوجه، بل ربما الوجه نفسه . في مجتمعاتنا التي تتحرك على أوتار المصلحة والتحايل، يصبح التبدل بين الأدوار ضرورة يومية. الإنسان هنا ليس سوى ممثل في مسرحٍ لا ينتهي، يغير أقنعته بسرعة البرق، مرتدياً شخصية في العمل، وأخرى في المنزل، وثالثة في الشارع. ومع مرور الوقت، ينسى أيٌّ من هذه الأقنعة هو وجهه الحقيقي، وأيُّها مجرد أدوات للبقاء في لعبة الحياة . لكن بعيداً عن هذه الدوامة، هناك عوالم أخرى تلوح في الأفق، عوالم ترفع راية البساطة كفضيلة، وتجعل من الصدق مبدأً لا يُساوم عليه. في تلك العوالم، لا يحتاج الإنسان إلى اختراع شخصيات متعددة، ولا إلى إخفاء أفكاره خلف ستار المجاملات. هناك، يمكنك أن تكون كما أنت، دون خوف من أن تُفهم خطأً، أو أن تُحاسب على صدقك. الحياة هناك تُبنى على الثقة، لا على الشك . لكن ماذا عن أولئك الذين عاشوا في تلك العوالم النقية، ثم قرروا العودة إلى مجتمعاتهم الأصلية؟ سرعان ما يكتشفون أنهم أصبحوا غرباء في أوطانهم. بينهم وبين تلك المجتمعات جدارٌ غير مرئي، جدارٌ من التناقضات التي تجعل من التعايش معها تحدياً يومياً. كمن يغادر قريةً هادئة إلى مدينةٍ صاخبة، يجد نفسه فجأة في عالمٍ تغيرت فيه المعايير، حيث أصبح الغش مهارةً يُفتخر بها، والخداع ضرورةً للبقاء، والتبدل في الهوية دليلًا على الذكاء الاجتماعي . الانهيار هنا ليس فقط في البنية الاجتماعية، بل في الروح الجماعية. الثوابت التي كانت تُبنى عليها الحياة تتلاشى شيئاً فشيئاً، لتحل محلها قيمٌ هشةٌ تتغير مع تغير الرياح. الإنسان في مثل هذا المجتمع يصبح كائناً متشظياً، يعيش بانفصام داخلي لا يراه عيباً، بل وسيلةً للبقاء. في هذا المناخ، تصبح الحقيقة عبئاً ثقيلًا، والوضوح مغامرةً غير مأمونة العواقب . الحنين إلى الماضي قد يكون خادعاً، فهو غالباً ما يكون مجرد انعكاسٍ لذكرياتٍ غائمة، وليس لعالمٍ يمكن العودة إليه. وكما قال عبد الرحمن منيف: “في الوطن نكتشف المنفى، وفي المنفى نكتشف الوطن.” فما بين الصفاء والضياع، تظل رحلة البحث عن الذات رحلةً مستمرة، تبدأ حين يجرؤ الإنسان على مواجهة نفسه بلا أقنعة، وعلى العيش بصدق في عالمٍ يزداد تعقيداً يومًا بعد يوم . هذه الرحلة ليست سهلة، ولكنها ضرورية. ففي النهاية، لا يمكن للإنسان أن يعيش حياةً حقيقيةً إلا إذا كان صادقاً مع نفسه، حتى لو كان ذلك يعني أن يقف وحيداً في مواجهة العالم .