آخر الأخبار
ألمقالات

ترامب والتلاعب بالذاكرة: محاولة فاشلة لإعادة صياغة فلسطين

كتب رياض الفرطوسي
في خضم الأزمة الفلسطينية المستمرة، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات صادمة تدعو إلى تهجير أبناء غزة إلى مصر والأردن، في محاولة مكشوفة لإعادة رسم خريطة الصراع وفق رؤية تتجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. هذه التصريحات، التي تعكس عقلية الاستعلاء السياسي والتلاعب بالمصائر الإنسانية، ليست مجرد اقتراح عابر، بل امتداد لنهج طويل يسعى إلى تصفيه القضية الفلسطينية عبر إفراغ الأرض من سكانها وتحويلها إلى ملف إنساني بدلًا من قضية تحرر وطني. لكن فلسطين ليست ورقة مساومة، وأهلها ليسوا غرباء على أرضهم، والمخططات العابثة بمستقبلهم لن تمر كما لم تمر من قبل. هذه التصريحات ليست مجرد رأي سياسي عابر، بل هي دعوة صريحة للتطهير العرقي، وانعكاس لفكر استعماري بائد يعيد إنتاج مآسي التاريخ بوقاحة غير مسبوقة. ترامب، الذي ينظر إلى العالم بعدسة رجل الأعمال لا رجل الدولة، يعتقد أن القضايا الإنسانية يمكن أن تُحَل بمنطق الصفقات والعقارات، وأن فلسطين ليست سوى مساحة يمكن تغيير معالمها بقرار رئاسي أو تفاهم سياسي. لكنه يجهل، أو يتجاهل، أن فلسطين ليست للبيع، وأن شعبها ليس سلعة يمكن نقلها من مكان إلى آخر وفق أهواء القوى الكبرى. المفارقة الكبرى في هذا المشهد أن تصريحات ترامب، بدلًا من أن تُقابل بإدانة عالمية مطلقة، تحولت إلى محور النقاش الإعلامي، فأصبح الحديث يدور حول إمكانية تهجير الفلسطينيين بدلاً من الحديث عن الاحتلال والجرائم الصهيونية المستمرة. بهذه الطريقة، نجح ترامب، ومعه ماكينة الدعاية الإسرائيلية، في إعادة توجيه الوعي، وصرف الأنظار عن القضية الأساسية نحو مسألة مفتعلة، تكرس حالة الخوف وتُغرق الفلسطينيين في معركة غير حقيقية حول “مستقبلهم”، وكأن هذا المستقبل قابل للتفاوض أصلاً. هذه الاستراتيجية ليست جديدة. فقد مارست الولايات المتحدة وإسرائيل هذا النوع من غسل الدماغ الجماعي في محطات تاريخية سابقة، حيث يتم ضخ معلومات متكررة ومضللة لتوجيه الوعي العام نحو زاوية محددة. حدث ذلك عندما روج الإعلام الغربي لفكرة أن الجيش العراقي هو خامس أقوى جيش في العالم، ليس بهدف الاعتراف بقوته، بل لدفع صدام حسين نحو قرارات كارثية أفضت إلى انهيار العراق واحتلاله. واليوم، يُعاد إنتاج نفس السيناريو مع فلسطين، عبر إغراق الذاكرة الجماعية بسرديات زائفة تجعل الفلسطيني ينشغل بقضية “الخروج” و”العودة”، بدلاً من التشبث بجذوره ومقاومة الاحتلال. ما يفعله ترامب اليوم ليس مجرد تصريحات، بل هو جزء من عملية هندسة نفسية ممنهجة تهدف إلى محو الذاكرة الجماعية وإعادة برمجتها وفق أجندات تخدم الاحتلال. في كتابها عقيدة الصدمة، تتحدث الباحثة نعومي كلاين عن مفهوم “البياض”، وهو حالة يتم فيها تفريغ العقل الجمعي من تاريخه وهويته، ثم إعادة ملئه بسردية جديدة مفروضة عليه. ترامب يمارس هذا النهج بامتياز، إذ يحاول إحداث قطيعة بين الفلسطينيين وتاريخهم، عبر تحويلهم إلى لاجئين محتملين، بدلًا من أصحاب حق تاريخي وأرض مسلوبة. ما يحدث ليس مجرد محاولة لتهجير الفلسطينيين جسدياً، بل هو محاولة لتهجير وعيهم، وسلبهم ثقتهم بحقوقهم، بحيث يصبحون أكثر قابلية للقبول بالحلول المفروضة عليهم. إنها عملية إعادة تشكيل للإدراك الجمعي، بحيث تتحول القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى أزمة إنسانية تتطلب حلاً إغاثياً، وهذا هو الخطر الأكبر. في مواجهة هذا المخطط، لا بد من استعادة الوعي بالقضية المركزية، وعدم السماح لترامب أو غيره بإعادة تعريف فلسطين وفق مصالحهم. إن غزة ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي جزء من كيان فلسطيني متكامل، وصمودها ليس معزولًا عن النضال الممتد عبر الأجيال. إن المعركة الحقيقية ليست حول التهجير أو البقاء، بل حول التحرر وإنهاء الاحتلال. وعي الفلسطينيين والعرب اليوم يجب أن يكون مقاوماً لمحاولات التلاعب، صامداً أمام حملات غسل الدماغ، ومحصناً ضد الدعاية التي تحاول تفكيك القضية إلى ملفات جزئية. قد يحاول ترامب، ومعه اللوبي الصهيوني، أن يخلق ذاكرة جديدة للفلسطينيين والعرب، ذاكرة قائمة على الرعب والتهديد بالتهجير، لكنه لن ينجح. لأن الذاكرة التي تصنعها المقاومة، والتي تُكتب بالدماء والتضحيات، أقوى من أي دعاية، وأعمق من أي تلاعب سياسي. فلسطين ليست رواية يكتبها الساسة في واشنطن، وليست عقاراً يمكن بيعه أو تصفيته. فلسطين هي التاريخ الذي لم يُمحَ، والحاضر الذي لم يُهزم، والمستقبل الذي لن يكون إلا نصراً وحرية.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟