آخر الأخبار
ألمقالات

“أحجار على رقعة الشطرنج: كيف رسمت أمريكا مصير الشرق الأوسط

كتب رياض الفرطوسي
في ظل غروب شمس الاستعمار القديم، وبزوغ فجر قوة جديدة، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ترسم خطوطاً خفية على خريطة الشرق الأوسط، خطوطٌ ستتحول مع الزمن إلى ندوب عميقة في جسد هذه المنطقة المضطربة. كانت الأربعينيات من القرن العشرين لحظة فارقة، حيث بدأت واشنطن تدرك أن الشرق الأوسط ليس مجرد أرضٍ غنية بالنفط، بل هو رقعة شطرنج جيوسياسية، يمكن من خلالها تحقيق الهيمنة العالمية. وهكذا، بدأت رحلة أمريكا الطويلة، من دعم الانقلابات إلى الاحتلال المباشر، في سعيها لترسيخ نفوذها. لم تكن الولايات المتحدة تريد أن تكون مجرد لاعبٍ آخر في الشرق الأوسط، بل أرادت أن تكون المهندس الخفي الذي يصوغ مصير المنطقة. وكانت الجيوش العربية هي الأدوات المثالية لتحقيق هذا الهدف. في مصر، بدأت واشنطن ببناء شبكة من العلاقات مع الضباط العسكريين، الذين رأت فيهم قوة قادرة على تغيير الأنظمة لصالحها. لكن اللعبة الحقيقية بدأت في سوريا. في عام 1949، كانت سوريا تعيش حالة من الاستقرار النسبي، مع دستور ديمقراطي وبرلمان نشط. لكن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) قررت أن تلعب دوراً آخر. دعمت الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم، والذي أطاح بالحكومة المدنية. كانت هذه الخطوة الأولى في سلسلة من الانقلابات التي ستغير وجه المنطقة. لم يكن الزعيم سوى قطعة صغيرة في لعبة أكبر، حيث بدأ النفوذ الأمريكي يحل محل النفوذ الفرنسي، وبدأت سوريا تفقد بريقها الديمقراطي. في خضم هذه التغيرات، ظهر حزب البعث كقوة واعدة، يحمل شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية. لكن حتى هذا الحزب لم يسلم من التأثير الأمريكي. يُقال إن ميشيل عفلق، أحد مؤسسي الحزب، لعب دوراً في تسهيل دخول النفوذ الأمريكي إلى المنطقة، كبديل للاستعمارين البريطاني والفرنسي. لكن الحزب، الذي بدأ كحلمٍ لتوحيد العرب، سرعان ما انقسم إلى فروع متناحرة في سوريا والعراق، وأصبح أداةً في يد القوى الخارجية. في خلفية هذه الأحداث، كان هناك رجالٌ يعملون في الظل، يحركون الخيوط بعناية. واحد من هؤلاء كان مايلز كوبلاند، ضابط المخابرات الأمريكية الذي كشف لاحقاً في كتابه “لعبة الأمم” عن كيفية تحويل الدول إلى قطع على رقعة الشطرنج. كان كوبلاند يؤمن بأن السياسة هي لعبة قذرة، وأن الغاية تبرر الوسيلة. وبالفعل، كانت الولايات المتحدة تستخدم كل الوسائل الممكنة، من الدعم المالي إلى التهديدات السرية، لضمان ولاء الأنظمة الجديدة. لم تكن سوريا وحدها هي مسرح الأحداث. في إيران، لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في انقلاب عام 1953، الذي أطاح برئيس الوزراء محمد مصدق، وأعاد الشاه إلى السلطة. كان هذا الانقلاب، الذي قاده كيرميت روزفلت من CIA، لحظة حاسمة في تاريخ الشرق الأوسط. فقد أظهر أن واشنطن مستعدة لتغيير أنظمة الحكم بالكامل إذا تعارضت مع مصالحها. لكن هذا التدخل ترك إرثاً مريراً، حيث ساهم في تأجيج العداء تجاه أمريكا، والذي انفجر لاحقاً في الثورة الإسلامية عام 1979. بعد نصف قرن من الانقلابات والتدخلات السرية، قررت الولايات المتحدة أن تلعب لعبتها بشكلٍ علني. في عام 2003، قادت تحالفا دولياً لغزو العراق، تحت ذريعة القضاء على أسلحة الدمار الشامل. لكن الغزو، الذي أطاح بنظام صدام حسين، لم يحقق سوى الفوضى. تحول العراق إلى ساحة حرب طائفية. كانت هذه اللحظة بمثابة نقطة تحول في سياسة أمريكا بالمنطقة، حيث بدأت تدرك أن القوة العسكرية المباشرة قد تكون أكثر تكلفةً مما تستحق. مع تراجع الاعتماد على نفط الخليج، بفضل اكتشافات النفط الصخري، بدأت الولايات المتحدة تعيد تقييم دورها في الشرق الأوسط. لم تعد واشنطن ترى المنطقة كساحة حصرية لها، بل كساحة متعددة الأقطاب، حيث تتنافس قوى مثل روسيا والصين وإيران وتركيا على النفوذ. الصراعات المستمرة في سوريا واليمن، والتحديات الأمنية المتزايدة، أجبرت أمريكا على تبني استراتيجيات جديدة، تعتمد أكثر على الدبلوماسية والشراكات الإقليمية. من دعم الانقلابات في منتصف القرن العشرين إلى الغزو المباشر للعراق، كانت رحلة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مليئة بالدروس والعبر. لكن السؤال الذي يبقى معلقاً هو: هل تعلمت امريكا من أخطائها؟ أم أن المنطقة ستظل ساحة لتجاربها الجيوسياسية؟ اليوم، بينما تتجه واشنطن نحو سياسات أكثر حذراً، يبدو أن الشرق الأوسط يقف على مفترق طرق. فهل ستكون العقود القادمة فرصةً لبناء مستقبل أكثر استقراراً؟ أم أن المنطقة ستظل رهينةً لأحجار الشطرنج التي تحركها القوى العظمى؟ هذه ليست مجرد قصة عن السياسة أو النفوذ، بل هي قصة عن شعبٍ حُكم عليه بأن يعيش في ظل لعبةٍ لا يتحكم بقواعدها. قصةٌ تذكرنا بأن الشرق الأوسط، بكل تعقيداته، ليس مجرد رقعة شطرنج، بل هو قلب العالم النابض، الذي يستحق أكثر من أن يكون ساحةً للحروب والتدخلات.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟