أسرى في أوهامهم


كتب رياض الفرطوسي
في كل مجتمعٍ مرّ بأزمنةٍ قاسية، يوجد من لا يرى الحياة إلا من خلال النافذة الصغيرة التي ورثها. هناك من يتصالح مع قيوده، لا لأنها عادلة، بل لأنها مألوفة. هناك من يخشى الحرية، لا لأنها مدمّرة، بل لأنه لم يعرف طعمها يوماً. إنها ليست فقط قيود السجون والجدران العالية، بل تلك القيود التي تنشأ في العقل. تُزرع الفكرة، تُكرر، تُقدَّس، حتى تتحول إلى حقيقةٍ لا تُناقش. يصبح الاستسلام طبعاً، والخضوع فضيلة، والخروج من النسق مخاطرةً لا تُغتفر. في بلادنا ، وفي البلاد التي ألفت الأزمات، صار الاعتياد على العيش في الظل جزءاً من طبيعة الأشياء. من عاش عمره في العتمة، قد يكره الضوء حين يبزغ فجأة. ومن تربّى على الخوف، قد يرى في الأمان تهديداً غير مألوف. حين يتكرر المشهد ذاته لعقود، حين تصبح الخطابات المعلّبة مصدر الحكمة، حين يتم تدجين العقول تحت وطأة الشعارات، يصبح السؤال جريمة، ويصبح التمرد ضرباً من الجنون. يُخلق واقع زائف، لكنه يبدو صلباً كأنه الحقيقة الوحيدة الممكنة. التسلط، حين يطول، لا يُنتج فقط أنظمةً حاكمة، بل يُنتج أذهاناً مستسلمة، تقتات على الخضوع وتبحث عن مُستبد جديد كلما انهار المستبد القديم. الخوف من الحرية ليس وليد الصدفة، بل هو نتاج تراكم طويل من القمع. وبما ان النوافذٌ لا تُفتح إلا بالعقل. تاريخيا حين كانت الإمبراطوريات تفرض حكمها، لم تكن تسجن الجميع خلف الأسوار. كانت تكتفي بزرع الأسوار داخل العقول. تجعل الناس يؤمنون أن حياتهم هذه هي الصورة الوحيدة الممكنة، وأن أي محاولةٍ لتخيل عالم آخر ليست إلا ضرباً من العبث. لكن، هل يمكن حقاً أن يعيش الإنسان محبوساً في سجنٍ بلا قضبان؟لكن العقول التي أنجبت الشعراء والفلاسفة والثائرين، لم تكن أقل قسوةً من زمننا هذا، ولم تكن أقل رعباً من حاضرنا. كل الحقب التي سادت ثم زالت، كانت تعتقد أنها أبدية. كل الحُكام الذين أعلنوا أنهم سيبقون، غادروا تحت عجلات التاريخ. الخلاص ليس فكرةً جماعيةً بالضرورة. المجتمع قد يكون غارقاً في الوهم، لكنه لم يمنع أحداً يوماً من أن يكون مختلفاً. هناك دائماً من يشق الطريق بعيداً عن السرب، من يرى ما وراء الجدران، من يجرؤ على التصديق بأن الحياة ليست مجرد نسخةٍ مكررة من الماضي. العقل، حين يتحرر، لا يحتاج إلى إذنٍ من أحد. لا ينتظر الضوء من الخارج، بل يشع من داخله. وحين يأتي زمن التحولات، سيبقى السؤال الكبير: كم من العقول ستجد الشجاعة لتكسر أوهامها؟