رحلة قصيرة.. لكنها لا تنتهي


كتب رياض الفرطوسي
التنقل بالتاكسي ليس مجرد وسيلة للوصول إلى وجهة معينة، بل هو أحياناً نافذة تطل منها على عوالم لم تكن تتوقعها. هو فرصة لاكتشاف الهواجس الخفية للناس، والاستماع إلى نبض الشارع، وفهم التفاصيل الصغيرة التي تصنع الصورة الكبيرة للحياة. في هذه الأيام، حيث تزدحم الشوارع بالحركة والضوضاء، استوقفت سيارة أجرة لتنقلني من حي الجهاد إلى وسط المدينة. بدا سائق التاكسي مختلفا عن الصورة النمطية المعتادة، هادئاً لا يميل إلى كثرة الكلام. اكتفى بضبط هاتفه على تطبيق الخرائط، وانطلقنا عبر الشوارع المتوهجة بصخب الحياة.
بعد دقائق من الصمت، التفت إليّ فجأة وسأل: “حضرتك من وين؟”
بدت لي إجابته أصعب مما تبدو، فماذا يقصد تحديداً؟ هل يسأل عن العشيرة، أم الانتماء الحزبي، أم كوني من العراقيين المقيمين في الخارج؟ ربما يتساءل إن كنت أنتمي إلى تنظيم سري! لكن ملامحي كانت كافية لتأكيد عراقيتي، فقلت له بنبرة ساخرة: “إذا كنت تبحث عن سيرتي الذاتية، فهي متاحة بكبسة زر. يمكن لأي شرطي أو مستشفى أو حتى شركة طيران مدني الوصول إليها بسهولة.”
كان صوت الراديو يصدح بأغنية حزينة، تملؤها كلمات الحنين والعودة:
راجعين … باجر نِشِدْ رحالنا راجعين … ومو كل شي مر إبالنا شوق إليحب ولهفته … وحجي إليلوم ولومته راجعين … راجعين ولا تظنون إبسوالف … ننسى حبكم وغيركم نهوى ونوالف حتى لو كل العمر مَرْ وتعدّى … وانقضت أحلى السنين وحتى لو كل الهوى وكل المودّة … إتروح ويروح الحنين إحنا إحنا إبكل وقت … أهل الوفا وأهل المحبّة إنسينا كل شي، وما نسينا الوطن ووجوه الأحبّة راجعين … راجعين الدنيا غربة بلا وطن … الناس غربة بلا أهل الدنيا غربة بلا ولف جينا يا ديرة صِبانا … جينا جينا جينا لليحفظ وفانا … جينا جينا راجعين … راجعين.
تأملت الكلمات، وسرحت بعيداً، وكأنها تحمل في طياتها قصة كل عراقي غادر وعاد، أو تأخر في العودة، أو ربما لن يعود أبداً. قطع السائق شرودي بجملة قصيرة لكنها عميقة
“من دبش راجعين”
ثم أردف بصوت هادئ لكنه مثقل بالتفكير
“هل تعرف أن معظم المثقفين والفنانين الكبار دفنوا خارج العراق؟”
تنهد بعمق وصمت، وكأن كلماته لم تكن مجرد جملة عابرة، بل اختزال لحكاية طويلة من الألم والغربة. عندها، لم يعد الطريق مجرد مسافة تُقطع، بل تحول إلى رحلة في الذاكرة والتاريخ. حين يتحول الطريق إلى نقاش مفتوح.
بدقائق قليلة، أدركت أن بيني وبين هذا الرجل ذاكرة مشتركة وجزءاً من تاريخ الأمس. أخبرني أنه كان جندياً أيام صدام، لكنه رغم القصف والحرب كان يحرص على قراءة الكتب. استرسل في الحديث عن قراءاته، وذكر لي إعجابه بأعمال غابرييل غارسيا ماركيز، خاصة مئة عام من العزلة والحب في زمن الكوليرا. انتقل حديثنا من الأدب إلى تأثير المكان على سلوك الإنسان، وكيف أن بعض الأشخاص يظنون أنهم يركبون السيارة، لكن في الحقيقة هي من تركبهم، وكيف أن الملابس قد تتحكم بصاحبها أكثر مما يتحكم بها، وكيف أن بعض البيوت تصبح أكثر أهمية من ساكنيها. قال لي بنبرة تأملية: هناك شخصيات تعرضت لانحراف وجودي جعلها ترى نفسها والآخرين بطريقة مشوهة، ولا علاج لها. الشخصية مثل شجرة، إن نمت معوجة، فلن تستطيع تعديلها لاحقًا. حتى الطب الحديث لا يحاول إعادة بناء الشخصية من جديد، لأنه يدرك أنها قد تنهار بالكامل. لذا، يكتفون بالعقاقير المهدئة لمقاومة تضخم الأنا . ثم أضاف وهو يهز رأسه بأسى: لكن في مجتمع يعاني من أمية علمية حتى بين المتعلمين، تضيع هذه النماذج كما يضيع الغراب في حقل الغربان، بل يصلون إلى أعلى المراكز ويحصلون على أرقى الشهادات . كان حديثه يشبه مرآة تعكس الواقع دون أي تجميل، مرآة لا يمكن تجاهلها. مع الأسف.. الطريق قصير عندما أشار السائق إلى وجهتي، أدركت أن الرحلة قد انتهت. تمنيت لو أن الطريق أطول، لو أن الحوار استمر، لو أن المسافة لم تكن مجرد مسافة، بل امتداد لحوار بدأ للتو. قبل أن أهبط من السيارة، التفت إلي قائلاً بتأثر واضح .
“مع الأسف، كانت الرحلة قصيرة ”
صافحته وأجبته مبتسما
“صحيح، لكن الرحلة لا تنتهي”