آخر الأخبار
ألمقالات

الكتابة: نافذة التنوير وأداة النهضة الحضارية

كتب رياض الفرطوسي
الكتابة ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل هي فنٌّ يحمل بين طياته روح الإنسان وتجربته وحقيقته. الأسلوب الذي تُقدم به الكتابة لا يقل أهمية عن مضمونها، فهو إما أن يبرز الفكرة ويجعلها حية وقوية أو يدمرها ويحولها إلى مجرد كلمات جوفاء. مثلما يمكن أن يتحول أفخر الطعام إلى تجربة سيئة إذا قُدم على مائدة غير ملائمة، كذلك قد تُقتل القضايا العظيمة إذا عُرضت بأسلوب ضعيف وغير صادق. حين سئل الروائي الروسي مكسيم غوركي عن كيفية تعلمه الكتابة، أشار إلى ظهره المثقل بآثار الأثقال التي حملها يوم كان عتالًا. بذلك، أكد أن الكتابة ليست مجرد مهارة مكتسبة، بل هي حياة مكتوبة على الجسد قبل أن تسكبها الأقلام على الورق. غوركي لم يكن يكتب بالحبر فقط، بل بدمه وتجربته وحياته، مما جعله يدمج بين المؤلف والنص ليخلق وحدة لا تنفصم بينهما. هناك فارق شاسع بين من يكتب من أعماق تجربته ومن يستنسخ أفكار الآخرين. الأول يُعبر بلغته الفردية التي تحمل أثر حياته وجرأته على الاعتراف، بينما الثاني يُكرر لغة الآخرين ويُعيد إنتاج أفكارهم دون روح. الكتابة الحقيقية تنبثق من أعماق الوحدة والمعاناة، وتصل إلى القارئ لأنها تخاطب القيعان النفسية العميقة التي يتقاسمها البشر. كما تقول الكاتبة الفرنسية آني إرنو: “إن لم أكتبها، لا تبلغ الأشياء مداهها، وتظل مجرد أشياء عشتها”. الكتابة ليست فقط سرداً للأحداث، بل هي استكمالٌ لتجربة الحياة وإعطاؤها معناها الحقيقي. إنها وسيلة لالتقاط تلك اللحظات الإنسانية العميقة التي لا يمكن وصفها بالكلمات العادية، تلك المشاعر والأحاسيس التي يختبرها كل إنسان في أعماقه لكنه يعجز أحياناً عن التعبير عنها. أن تكون كاتباً يعني أن تكون إنساناً على الأرض بكل ما تحمله الإنسانية من تناقضات وألم وأمل. الكتابة الصادقة تنبع من ينابيع صافية، لا من قيعان مشوهة. الكاتب الحقيقي هو من يُصارع مع ذاته، من يحول أحاسيسه وتجربته إلى نص حي يتنفس ويُلهِم. رسول حمزاتوف وهو شاعر داغستان الاشهر وصف الكتابة بأنها نقيض الكذب. فالكتابة الصادقة لا تخفي الحقائق ولا تتجمل، بل تنقلها كما هي، بكل ما فيها من ألم وجمال. وهذا ما يميز الكاتب الذي ينزف صدقاً عن المستكتب الذي يطنُّ بالكلمات دون أن يحمل معنى حقيقياً عبر التاريخ، كانت الكتابة إحدى الأدوات الأساسية في بناء الحضارات. من خلالها، نُقلت العلوم والمعارف، ووُثقت التجارب الإنسانية، وانتقلت الشعوب من الجهل إلى المعرفة. الكتابة هي ذاكرة الأمة، ووسيلة لتجاوز حدود الزمان والمكان. عندما يكتب الكاتب بصدق وتجربة، فإنه لا يُعبّر عن نفسه فقط، بل يُضيء عقول الآخرين ويُلهمهم للخروج من سباتهم . إدوارد سعيد وهو باحث وكاتب فلسطيني قال: “أقل ما يجدر بالمثقف عمله أن يكون همه إرضاء جمهوره”. الكتابة الحقيقية ليست إرضاءً للعامة، بل هي صرخة تنويرية توقظ الأمة من غفلتها. إنها وظيفة المثقف أن يُحرج المجتمع بأسئلته، أن يُناقض المألوف، وأن يُزعزع اليقينيات الزائفة. الكتابة ليست مجرد حرفة، بل هي رسالة ومسؤولية. الكاتب الحقيقي هو من ينزف صدقاً على الورق، من يُصارع ليكشف الحقيقة ويُبرزها. في عالم يعج بالأصوات المستعارة والأقنعة التنكرية، تبقى الكتابة الصادقة النابعة من التجربة الحية هي البوصلة التي تقودنا نحو النور، نحو فهم أنفسنا ومجتمعاتنا، ونحو تحقيق نهضة حضارية حقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟