مفهوم “الشرق الأوسط الجديد”: من الطموحات الأميركية إلى الواقع


كتب رياض الفرطوسي
منذ أن أعلن وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جيمس بايكر، خلال افتتاح مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 عن مرحلة جديدة للمنطقة، حمل مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” في طياته طموحات كبرى لإعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالح القوى العظمى. لكن هذا المفهوم لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية، ومخططات استراتيجية هدفت إلى إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية بما يتماشى مع التوجهات الأميركية والإسرائيلية. في كتابه الصادر عام 1993 بعنوان الشرق الأوسط الجديد، قدم شيمون بيريز رؤيته للمنطقة التي تقبل فيها الدول العربية الهيمنة الإسرائيلية عسكرياً واقتصادياً، مع وعود بالتكامل الإقليمي الذي ينهي الصراعات. الفكرة المحورية هنا كانت “استبدال الإنسان الشرق أوسطي العاقل بالإنسان الاقتصادي المحب للسلام”. لكن هذه الرؤية تجاهلت عمق الصراعات والتناقضات السياسية والاجتماعية في المنطقة، وركزت على تحقيق أهداف اقتصادية تخدم الهيمنة الإسرائيلية والأميركية . رغم الوعود بإحلال السلام، فإن المنطقة ظلت ساحة للصراعات والحروب. القواعد العسكرية الأميركية التي تمتد على طول وعرض المنطقة (60 قاعدة في 15 دولة، بما فيها 12 في العراق و20 في سوريا) أصبحت رمزاً للهيمنة الخارجية، مع تعزيز منظومات التجسس والرقابة كما كشفها إدوارد سنودن. هذه البنية العسكرية ترسخ السيطرة الأميركية وتمنع أي مشروع استقلالي حقيقي للدول العربية، ما يجعل مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” أقرب إلى مشروع استعمار مقنع. ساهم الإعلام والنخب الفكرية الموالية في ترسيخ فكرة العدو الذي لا يُقهر، وهي فكرة أنتجتها مراكز صنع القرار الغربية والإسرائيلية. لكن الواقع يثبت ضعف هذه النظرية، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، عندما أثبتت المقاومة الفلسطينية باستخدام أدوات بسيطة قدرتها على كسر الصورة النمطية للهيمنة العسكرية الإسرائيلية. الواقع السياسي بقي يعيد إنتاج نفسه عبر أنظمة تخدم مصالح الخارج أكثر من الداخل. يبقى السبب الجوهري وراء كل الثورات والانقلابات والصراعات في المنطقة هو القضية الفلسطينية. منذ نكبة 1948، أصبحت فلسطين رمزاً للصراع المستمر ومصدراً للاضطرابات التي تعصف بالعالم العربي. أي حديث عن “شرق أوسط جديد” يتجاهل هذا الجرح لن يكون سوى محاولة سطحية لإعادة إنتاج الهيمنة بدلاً من إيجاد حلول حقيقية . إن مفهوم “الشرق الأوسط الجديد” الذي حملته الولايات المتحدة وإسرائيل ليس إلا استكمالًا لمشروع الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. لكن هذا المفهوم فشل في تغيير الواقع العميق للمنطقة، حيث بقيت الشعوب متمسكة بقضاياها وحقوقها. إذا كان هناك شرق أوسط جديد يتشكل، فهو شرق يولد من إرادة الشعوب ورفضها للخضوع، لا من مخططات تُفرض من الخارج.