آخر الأخبار
ألمقالات

الجدل والجدال والمجادلة : دراسة قرآنية لغوية (ق 2 )

الجدل والجدال والمجادلة : دراسة قرآنية لغوية (ق 2 )
بقلم:
د.رعدهادي جبارة
الأمين العام
للمجمع القرآني الدولي

خصوصية المفردة القرآنية (43)

ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ[النحل125] 🔹المقدمة:
لقد عمت ظاهرة الجدال في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ومن خلال تجربتي الطويلة في الحوارات التلفزيونية التي تستضيفني كل يوم او بين يوم وآخر؛أجد المتحاورين احياناً متجادلين متصارخين لا يكادون يفهمون ما يقول أحدهم للآخر؛ تسيطر عليهم ثورة الغضب وظاهرةالتشبث بالرأي وتأخذهم العزة بالإثم غالبًا بسبب المراء والجدال العقيم، حتى يتحول البرنامج التلفزيوني والإستوديو أحيانًا إلى حلبة ملاكمة بين الضيفين!! والمذيع يغدو حَكَماً تنقصه الصفارة! كي يوقفهما عن تبادل اللكمات والعودة إلى تبادل الكلمات.وهكذا الوضع في منصات الواتساب والتلغرام والفيسبوك و الانستغرام، المليئة بالجدل العقيم و الشتائم.
وفي القسم الأول من بحثنا (الجدل والجدال والمجادلة: دراسة قرآنية لغوية)استعرضنا مفاهيم عديدة، على أن نكمله في هذا القسم (ولست أظن أنه سيكتمل) وسنلقي الضوء على جوانب أخرى منه.

🔹آيات تنهى عن الجدل السلبي:
وردت مادة الجدال في القرآن الكريم في [29] موضعًا، كلها جاءت بمعنى الخصومة إلا في [4] مواضع، منها قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 74-75]

🔹من الجدال السلبي:
{وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] {الذين يجادلون في آيات الله} [غافر: 35] {وإن جادلوك فقل الله أعلم} [الحج: 68] {ما ضربوه لك إلا جدلا} [الزخرف: 58] {وجادلوا بالباطل} [غافر: 5] {ومن الناس من يجادل في الله} [الحج: 3] {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [البقرة: 197] {هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّـهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 109] 🔹سبب الجدل الباطل:
1.الغرور والكبرياء و الخيلاء.
2.إظهار العلم والفضل.
3.الاعتداء على الغير بقصد إظهاره نقصه أو أذيته.(كما أشار الغزالي في إحياء علوم الدين ٣/١١٦، ومنهاج الجدل ص ٥٩وعلاج ذلك بالتوبة إلى الله تعالى، وكسر الكبر والاعتداد بالنفس).
4.التعصب للرأي والتشبث بالطرح.
5.غواية الشيطان و الاعتماد الكلي على صحة ما يصدر عن المتعصب، وعدم الاقتناع برأي الآخر حتى لو كان صائبًا.

🔹آيات الجدال المحمود:
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]

🔹إبراهيم ع وأبوه:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ …} [مريم: 44-47] إذا كان الحوار بين ابن صالح وأبيه في نطاق الأدب ولم يشمل وقاحة أو إهانة، وكان الهدف الدعوة إلى الله، فلا مانع منه ولا يعد من الجدال المذموم.
وكانت النتيجة استغفار الابن لأبيه، كما في {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114].

🔹قصةسورةالمجادلة
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] -الميزان: قال في المجمع التحاور التراجع وهي المحاورة يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا. انتهى.يضيف العلامة الطباطبائي؛
الآيات الأربع أو الست نزلت في الظهار وكان من أقسام الطلاق عند عرب الجاهلي(ـة) كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أُمي فتنفصل عنه وتحرم عليه مؤبدة. وقد ظاهر بعض الأنصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله ﷺوآله وسلم تسائله فيه لعلها تجد طريقاً إلى رجوعه إليها وتجادله ﷺوآله في ذلك وتشتكي إلى الله،الظاهر أنها كانت تتوخى طريقاً إلى أن لا تنفصل عن زوجها… والله يسمع تراجعكما في الكلام.
أقول:
فلم تكن إذن تلك المرأة (وهي خولة بنت ثعلبة،واسم زوجها أوس بن الصامت الأنصاري)مزعجة للنبي ﷺ وآله ،في جدالها، و الوحي لم يقل بذمها، فنزلت الآيات لتعالج مشكلتها.
إذ كانت خولة متمسكة بالحوار مع النبي ﷺ وآله وتريد العودة إلى أوس، وكان جدالها مع النبي بمعنى الحوار و السعي لحل مشكلتهاوما لبثت أن نزلت سورة المجادلة لتحل مشكلتها ومشكلة أمثالها،ممن ندمت و ترغب في العودة لزوجها، ولم يتضايق منها النبي ﷺوآله،بل أرسل على زوجها و أبلغه بالحكم الشرعي النازل في حقه وحق زوجته وأمره بإعادتها له.

🔹روايةطريفة!شخص يجادل الله يوم القيامة:

{خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةࣲ فَإِذَا هُوَ خَصِيمࣱ مُّبِينࣱ}
[النحل:4] روى أنس أن النبي ﷺوآله قال : يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له :
_ما صنعتَ فيما أرسلتُ إليك ؟
فيقول : رب آمنتُ بك وصدقتُ برسلك وعملتُ بكتابك ،
فيقول اللهﷻ له: هذه صحيفتك ليس فيها من ذلك ،
فيقول : يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة (!!)
فيقال له : هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك،
فيقول : ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي (!!!)
فيقول الله ﷻ : هذا اللوح المحفوظ أُمّ الكتاب قد شهد بذلك،
فيقول : يا رب ألم تُجِرني من الظلم ؟
يقول ﷻ: بلى
فيقول : يا رب لا أقبل إلا شاهدا عليّ من نفسي.
فيقول الله ﷻ: الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك.
فيتفكر من ذا الذي يشهد عليه من نفسه فيُختَم على فيه، ثم تنطق جوارحه بالشرك، ثم يخَلّى بينه وبين الكلام، فيدخل النار، وإن بعضه ليلعن بعضاً، فيقول لأعضائه: لعنكنّ الله، فعنكنّ كنت أناضل.
فتقول أعضاؤه: لعنك الله أ فتعلم أن الله ﷻ يكتم حديثاً؟؟!!
فذلك قوله ﷻ : {وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أخرجه مسلم [وانظر تفسير القرطبي وغيره من المفسرين ].
يقول ﷻ:
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (النور-24)
{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (فصلت21)
🔹أحاديث نبوية:
☆قال ﷺوآله:
“أنا زعيمٌ ببيت في أعلى الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في رياض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا.” [الخصال للشيخ الصدوق] ☆وقالﷺوآله:
“ثلاث من لقي الله بهن دخل الجنة من أي باب شاء: من حسّن خلقه، وخشي الله في المغيب والمحضر، وترك المراء وإن كان محقًا”
[الأصول للكليني]

🔹الملخص:
يتناول البحث الجدل و الجدال والمجادلة في القرآن الكريم،مستعرضًا الفرق بين الجدل المذموم والجدل المحمود، مع تحليل لغوي ودلالي للمفردة القرآنية، وعرض نماذج من القرآن والسيرة النبوية. يبين البحث أن الجدل المحمود وسيلة دعوية هادفة، بينما الجدل المذموم ينشأ عن الكبر والتعصب والعناد، ويؤدي إلى الفساد الاجتماعي والفكري.
🔹الخاتمة:
☆قال الأوزاعي:
إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل.
☆ولذلك قال الشافعي:
قالوا سكتَّ وقد خوصمتَ قلتُ لهم
إن الجوابَ لِبَابِ الشَّرِّ مفتاحُ

والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ
وفيه أيضًا لصون العرض إصلاحُ

أما ترى الُأسد تُخشى وهي صامتةٌ
والكلب يُخسى لعمري وهو نبّاحُ

🔹مصادر مفيدة:
1.الاحتجاج على أهل اللجاج / الطبرسي.
2.الحوار في القرآن، للعلامة المرجع السيد محمدحسين فضل الله.
3.آداب البحث والمناظرة/محمد رضا المظفر
4.منهج الحوار في القرآن الكريم / عبد الهادي الفضلي
5.المعونة في الجدل / أبو إسحاق إبراهيم الشيرازي الشافعي
6.المنتخل في الجدل / أبو حامد الغزالي
7.الجدل على طريقة الفقهاء / لأبي الوفاء بن عقيل الحنبلي
8.المقترح في المصطلح في الجدل، لأبي منصور محمد البروي.
9.الإيضاح لقوانين الاصطلاح، يوسف ابن الجوزي.
10.علم الجذل في علم الجدل، نجم الدين سليمان الطوفي.
~~~~~~~~~~

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى