آخر الأخبار
ألمقالات

الحشود وصناعة الطغاة

كتب رياض الفرطوسي
في كل مراحل التاريخ البشري، لعبت “الحشود” دوراً محورياً في صناعة الطغاة. هذه الحشود التي تهتف بحماس أعمى، وتصطف وراء زعماء يَعِدونها بالمجد والانتصارات، سرعان ما تجد نفسها ضحية لخيانة أحلامها. هكذا تكررت المأساة؛ من هتلر الذي جرّ ألمانيا إلى الخراب، إلى صدام حسين بانتصاراته الوهمية، وستالين الذي غدر برفاقه وزوّر تاريخهم، وصولًا إلى قادة معاصرين يتسترون وراء شعارات العقيدة والديمقراطية . الحشود ليست الجماهير. الحشود كيان منفعل، تُحركه الغريزة، وليس العقل. إنها تنقاد وراء الولاء المطلق، وهو ما يعني إلغاء التفكير النقدي. حين تهتف الحشود، لا تسأل ولا تحاسب. لا تبحث في الحقائق، بل تستسلم للتصفيق والمديح، أو التهجم واللعن. في هذا السياق، يتحول القتلة والسفاحون إلى أبطال، وتُنسج حولهم أساطير تُغطي على جرائمهم . بعض القادة الجدد ، كمثال، ليسوا إلا نسخة مكررة من طغاة سابقين. كيف يمكن لقاطع رؤوس وسفاح أن يُعاد تقديمه كرجل دولة ديمقراطي؟ هذا تناقض صريح مع تجارب البشرية. التاريخ يقول إن المجرم المحترف لا يستيقظ يوماً ليصبح ملاكاً. التغيير الحقيقي يبدأ بالاعتراف بالذنب والتكفير عنه، لكن الحشود تفضل التصفيق لأوهام الإصلاح بدلًا من مواجهة الحقيقة . كتب الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو أن “كل ثائر يحمل بداخله طاغية محتمل”. عندما يتحول الحلم إلى سلطة، يبدأ التناقض. الحلم نقي ومثالي، بينما السلطة مساومات وصفقات. الثائر الذي يقود ثورة ضد الظلم سرعان ما يجد نفسه في مواجهة مع حلمه الأول؛ إذ تجره السلطة إلى مسار مختلف، حيث تُصنع القرارات في غرف مغلقة، ويتحول الفكر إلى أداة للقمع . هذا ما حدث مع ستالين. في البداية، كان رفيقاً للثورة البلشفية، لكنه سرعان ما تخلص من رفاقه ليبني سلطته المطلقة. بل إنه أمر بإعادة كتابة تاريخ ماركس ليخدم رؤيته الاستبدادية، وقام بتصفية المفكرين الذين كُلفوا بهذا العمل. هكذا يتحول الزعيم الثوري إلى نسخة أخرى من الطاغية، ويصبح الفكر ضحية دائمة للسلطة . في العالم العربي، يبدو أن الحشود تعاني أزمة مستمرة مع مفهوم النقد. كيف يمكن لحشود تهتف لصدام بالأمس أن تهتف لسفاح اليوم ؟ إنها أزمة الولاء المطلق، الذي يعني إلغاء أي مساحة للتفكير. عندما تُمنع الحشود من التفكير، فإنها تسلم قيادها للطغاة، وتبرر الجرائم، وتعيش على الأوهام . الحشود التي هتفت لهتلر رأته منقذاً، لكنها دفعت ثمناً باهظاً لحماستها العمياء. الحشود التي صفقت لصدام صدّقت وعوده الكاذبة بالنصر، لكنها وجدت نفسها في نهاية المطاف وسط الخراب. اليوم، نجد الحشود نفسها تكرر الخطأ، تهتف لزعماء جدد، يحملون الشعارات ذاتها، بينما تُعاد كتابة التاريخ بأيدي الطغاة. الحل يبدأ بالتفرقة بين الحشود والجماهير. الحشود تنقاد بغريزة القطيع، أما الجماهير فهي قوة واعية تبني المستقبل. الجماهير تسأل وتحاسب، تُراجع الأفكار وتناقشها، بينما تكتفي الحشود بالتصفيق أو الهتاف. الخروج من أزمة الحشود يتطلب بناء ثقافة نقدية، تعطي الأولوية للفكر على الولاء، وللحقيقة على الشعارات . لا يمكن لمجرم محترف أن يتحول إلى ديمقراطي بين ليلة وضحاها. لا يمكن لطاغية أن يصير قديساً بفضل التصفيق. ما نحتاجه هو مساءلة الماضي، ومحاسبة الحاضر، لبناء مستقبل لا تتحكم فيه الحشود، بل تصنعه الجماهير الواعية . الحشود تُكرر خيباتها لأنها لا تفكر، وتُسلم نفسها للطغاة. لكن التاريخ يُظهر أن الجماهير الواعية وحدها تصنع التغيير. حين تتوقف الحشود عن الهتاف وتبدأ بالسؤال، حين ترفض الولاء المطلق وتطالب بالمحاسبة، ستكسر الدائرة المفرغة للطغيان، وتفتح باباً جديداً للحرية والفكر .

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا
كيف يمكنني مساعدتك؟