آخر الأخبار
ألمقالات

زمن الثنائيات

كتب رياض الفرطوسي
في زمننا الحالي، باتت الحياة وكأنها تقف عند حدود ثنائيات مبسطة ومجحفة، تُسجن العقول داخلها، وتحجب عنها إدراك تعقيدات الوجود. لم تعد الخيارات متعددة، بل أصبحت مُختزلة بين الأبيض والأسود، الخير والشر، الشريف وغير الشريف، الوطني واللاوطني. هذه الثنائيات القسرية ليست وليدة اليوم، بل تمتد جذورها إلى عمق التاريخ، حيث تقسمت الحياة في بابل القديمة إلى ثنائية النور والظلام، وتكرست هذه الفكرة مع مرور العصور، رغم أن الفكر الحديث والعلوم قد تجاوزا هذه الرؤية الضيقة . العقل السياسي اليوم، بمعاييره الرديئة، صنع لغة سطحية زرعها في عقول الناس، حتى غدت البساطة المختزلة قاعدة التفكير السائدة. العقل الجمعي تحوّل إلى آلية تصنيف متصلبة، لا تقبل الحياد ولا تستوعب التعقيد. حشود تلعن وأخرى تصفق، وفي كلتا الحالتين لا شيء يتغير. في بلادٍ يغلفها الزيف، حتى بكاء الأطفال لا يخلو من الكذب، تنمو عقلية رتيبة ترى الجمال بلا معنى، ولا تستجيب لمنظر مدهش أو نص عميق. هذا التشوه الفكري، الذي يفقد الإنسان علاقته بالجمال والنقاء، يعد من أخطر مظاهر الخراب النفسي والاجتماعي . إن المجتمعات الشمولية لا تكتفي بتقييد الحريات، بل تصيب الأفراد بعقم فكري عميق، يحولهم إلى مجرد أدوات اجترارية تخشى التغيير وتقاوم الابتكار. في مثل هذه المجتمعات، يسود استعراض القوة والتبجح كوسيلة لإثبات الذات. تصبح الأحداث، مهما كانت دموية أو مأساوية، فرصة للاستثمار السياسي، وليس للتغيير أو البناء. الفرد ذاته يصبح منقسماً داخلياً بين ما يؤمن به فعلاً وما يُجبر على تبنيه لإرضاء مجتمع يراقبه بعينٍ ناقدة . هذا الانقسام والاحتقان الذي يطغى على كل شيء – من الشوارع إلى البيوت، ومن المحافظات إلى الأحياء – يولد حالة من البؤس العميق. في هذا السياق، يصبح الحديث عن الجمال والأناقة والهدوء ضرباً من الترف، حيث الواقع محكوم بالكراهية والاحتقان . رغم تغير الأسماء والوجوه، يظل المشهد ثابتاً؛ معارك عبثية، نزوات عابرة، وحماقات متكررة تُنتج الخراب ذاته. لكن هل يمكن أن نكتفي برصد هذا الواقع المرير؟ المثقف، بحكم مسؤوليته التاريخية، لا يجب أن يكون مجرد شاهد صامت أو مداح للسلطة، بل صوتاً يوقظ الوعي وينير الطريق نحو غد أفضل . الثنائيات التي تُقسم الواقع بين تفاؤل ساذج وتشاؤم عميق، هي في حد ذاتها انعكاس لعقول تعجز عن فهم التعقيد. كما يقول أينشتاين، ذرة الرمل أكثر ثقافة منا لأنها تتشكل من عناصر معقدة. الحياة لا تسير وفق معادلات الأبيض والأسود؛ فالنهار يحتوي الليل، والموت جزء من الحياة، والخير يحمل في طياته بذور الشر . الأمل الأعمى، في مجتمع مشبع بالخداع، قد يكون أخطر من اليأس ذاته، لأنه يخلق وهماً يؤدي إلى مصير غير محسوب. هذا الأمل الساذج، المغلف بالأحلام الزائفة، ليس أكثر من هروب من مواجهة الحقائق المرة . لقد فشلت معظم الأحزاب والتيارات السياسية في مجتمعاتنا في إنتاج علماء وفلاسفة وأدباء قادرين على قراءة الواقع بعمق، وتحليل تناقضاته، وابتكار حلول جديدة. بدلاً من ذلك، أنتجت ببغاوات تردد ما يُملى عليها، وتعادي أي محاولة للخروج عن النص، وكأننا في مجتمع قبلي يتوحد أفراده ضد أي صوت مختلف . في زمن الخراب، تبقى مهمة المثقف الأساسية هي صياغة صورة واقعية للغد، بعيداً عن التبخير والتطبيل. لأن الحقيقة ليست في الثنائيات، بل في فهم التعقيد الإنساني والطبيعة المتشابكة للحياة .

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا
كيف يمكنني مساعدتك؟