آخر الأخبار
ألمقالات

أباطرة الوهم وسقوط العروش

كتب رياض الفرطوسي
في عالم السياسة، تُنسج الخيوط الدقيقة بين السلطة والهيمنة، حيث تتحول الدول الضعيفة إلى رقعة شطرنج تتحكم بها القوى العظمى. يطفو على السطح مشهد متكرر لقادة يتلاعبون بمصائر الأمم، فيما تستتر القرارات المصيرية خلف ابتسامات زائفة ومجاملات دبلوماسية لا تعكس سوى صفقات خفية ومساومات قسرية.

عبر التاريخ، لم تكن العلاقات بين القوى الكبرى وحلفائها قائمة على الشراكة المتكافئة، بل لطالما هيمنت نزعة الاستغلال، حيث يُجبر الضعيف على تقديم فروض الولاء والطاعة، بينما يتربع القوي على عرش القرارات. وفي خضم هذه العلاقات، تتكشف أحياناً اللحظات التي تسقط عنها الأقنعة، لتظهر حقيقة التعاملات التي تحكم العالم.

كم من زعيم اعتقد أنه صاحب السيادة، ليكتشف لاحقًا أنه مجرد منفذ لأوامر تأتيه من عواصم أخرى؟ وكم من دولة اعتقدت أنها تحظى بالدعم غير المشروط، لتكتشف أنها ليست سوى ورقة ضغط في لعبة أكبر منها؟

على مر العصور، شهد العالم حكاماً غرقوا في جنون العظمة، معتقدين أن قراراتهم قدر لا يُرد، وأن شعوبهم ستظل قابعة تحت سلطتهم إلى الأبد. بعضهم انشغل بنسج الأساطير حول نفسه، وآخرون تقمصوا أدوار الفلاسفة والمفكرين والشعراء، محاولين منح طغيانهم طابعاً ثقافياً أو روحانياً. لكن النهاية كانت دائماً واحدة: سقوط مدوٍّ، قد يأتي على يد شعب منتفض، أو بانقلاب داخلي، أو حتى بانهيار ذاتي يدفعهم إلى العزلة أو الجنون.

هتلر، الذي قاد ألمانيا إلى الدمار بسبب أوهامه حول العرق والسيطرة، انتهى منتحراً في ملجأ تحت الأرض، تاركاً بلاده في خراب. موسوليني، الذي ظن أن إيطاليا ستخلد اسمه، عُلّق جسده رأساً على عقب في شوارع ميلانو على يد شعبه. أما صدام حسين، الذي ظن أنه سيحكم العراق إلى الأبد، فقد انتهى به الأمر في حفرة، قبل أن يلقى مصيره المحتوم. والقذافي، الذي اعتقد أنه “ملك ملوك أفريقيا”، وجد نفسه مطارداً في مجاري الصرف الصحي قبل أن يقتله أبناء شعبه. ولم يكن بن علي وحسني مبارك بعيدين عن هذا المصير، فقد أطاحت بهم شعوبهم بعد سنوات من الحكم المستبد.

ولا يختلف دونالد ترامب كثيراً عن هؤلاء القادة، فقد تجلى لديه جنون العظمة بشكل واضح، متقمصاً دور الإمبراطور الذي يأمر فيُطاع، ويتحدث كما لو أن العالم يدور حوله. لم يكن يرى في حلفائه سوى بيادق على رقعة الشطرنج، يهددهم حين يشاء، ويملي عليهم قراراته دون اعتبار لاستقلالهم أو سيادتهم. فعندما تحدث مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، لم يكن حديث شراكة، بل لهجة السيد الآمر الذي لا يقبل الجدل، مكرراً عبارته الشهيرة: “لستَ أنت من يقرر”، ليؤكد أن الهيمنة لا تزال جوهر السياسات الأمريكية.

أما في الداخل، فقد شاهدنا في حينها كيف أوهم نفسه بأنه الزعيم الأوحد، وأن خسارته في الانتخابات مجرد خدعة، ليدفع بمؤيديه نحو التمرد واقتحام الكونغرس في مشهد كاريكاتوري يذكرنا بنهايات الطغاة الذين لا يؤمنون بإرادة الشعوب. وبينما يتظاهر بالدفاع عن الديمقراطية، لم يكن سوى نسخة حديثة لأولئك الذين انتهوا منفيين أو معزولين، بعدما تجاهلوا أن التاريخ لا يحمي المصابين بجنون العظمة.

أما اليوم، فما زال عالم السياسية يعج بقادة يكررون أخطاء الماضي، معتقدين أن قوتهم بلا نهاية، متناسين أن التاريخ لا ينسى، وأن الشعوب التي تُسحق تحت وطأة الطغيان قد تصبر طويلاً، لكنها في النهاية تستعيد صوتها.

إن العالم لا يحتاج إلى مزيد من الحكام الذين يعيشون في أبراج عاجية، منفصلين عن واقع شعوبهم، غارقين في أوهام القوة والسيطرة. ما يحتاجه العالم حقاً هو قادة يفهمون أن السلطة مسؤولية، وليست امتيازاً، وأن الحكم ليس فرصة للنهب أو بناء الأساطير الشخصية، بل أمانة تُحفظ بالعدل، وإلا فإن نهايتهم ستكون عبرة لمن يعتبر.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟