آخر الأخبار
ألمقالات

سوريا في عين العاصفة: رقصة الأقدار وصراع النفوذ

كتب رياض الفرطوسي
وسط زحمة الفوضى وهدير الرصاص، تتهاوى المدن السورية كأوراق الخريف، بينما تتشابك الخيوط في لعبة كبرى لم يكن السوريون سوى وقودها. شوارع كانت تنبض بالحياة، أصبحت مسرحاً لصراع لا نهاية له، حيث تختلط الدماء بوعود زائفة، وتختفي الحقيقة خلف ستائر الدخان.

لم تكن الحرب في سوريا وليدة لحظة عابرة أو انفجاراً مفاجئاً، بل كانت سلسلة من الخطط التي حيكت في الظل، بمهارة خبراء الفوضى. كُتبت السيناريوهات بعناية، ووزعت الأدوار، بدءاً من الفصائل المسلحة التي وُلدت على عجل، إلى القوى العظمى التي تحركها من بعيد كعرائس ماريونيت، بينما تُترك البلاد نهباً للدمار والتقسيم.

لا يخفى على أحد أن التاريخ يكرر نفسه، وأن من يصنع الوحش لا بد أن يتخلص منه في النهاية. لطالما كانت الولايات المتحدة تتبع هذه القاعدة الصارمة، فتستخدم رجالها حتى تنتهي صلاحيتهم، ثم تلقي بهم إلى المصير المجهول. من كوريا إلى فيتنام، ومن ليبيا إلى أفغانستان، كانت اللعبة واحدة، والآن، تدور عجلاتها في سوريا.

لكن اللعبة هنا أكثر تعقيداً، فليست مجرد صراع على السلطة، بل إعادة تشكيل خارطة النفوذ، حيث يتم إذكاء نار الطائفية، ليسهل التلاعب بمصير البلاد. كما حدث في العراق، تم استخدام الانقسامات المجتمعية كسلاح، لتبرير التدخلات، وخلق أوهام بوجود المنقذ المنتظر، الذي سرعان ما يتحول إلى جلاد جديد.

وما أحمد الشرع، أو غيره من قادة الفصائل، سوى أوراق تُستبدل حينما يحين وقت التغيير. فقد رأينا سابقاً كيف انتهى المطاف بالبغدادي والزرقاوي وغيرهم، وكيف تم إنهاء أدوارهم في لحظات محسوبة بدقة. السؤال ليس إن كان الشرع سيختفي، بل متى؟ فحين تتحقق الأهداف، لا مكان لأولئك الذين أشعلوا النيران، فقد انتهت أدوارهم، ولم يعد بقاؤهم ضرورياً.

في زوايا المشهد، يظهر دور القوى الكبرى في صناعة القادة، وتحريكهم كما تُحرّك قطع الشطرنج. لطالما كانت هذه الاستراتيجية سلاحاً خفياً، حيث يتم إعداد شخصيات معينة مسبقاً، ثم دفعها إلى الواجهة في اللحظة المناسبة. تماماً كما كشف هيكل يوماً عن لقاء جمعه بسفير أمريكي في القاهرة، برفقة رجل لم يكن سوى “رفيق الحريري” في أيامه الأولى، قبل أن يصبح رئيس وزراء لبنان لاحقاً. ما حدث آنذاك، يحدث اليوم في سوريا، حيث تُخلق الزعامات، وتُحدد نهاياتها قبل أن تبدأ قصصها.

لكن، في خضم هذه العاصفة، أين كان النظام السوري السابق؟ كيف تحوّل من قوة تملك آلاف الصواريخ والدبابات، إلى كيان هشّ اخترقته إسرائيل مراراً؟ كيف سقطت دفاعاته رغم وجود أكثر من عشرين جهازاً أمنياً، لم يفلح أي منها في حماية البلاد؟ الحقيقة مرة، لكنها واضحة: لقد تم دفعه إلى الفخ، حتى لم يعد يملك من أمره شيئاً، في سيناريو مُعد بعناية.

اليوم، لم تعد سوريا دولة موحدة، بل فسيفساء من الدويلات، كل منها تتبع راية مختلفة، والمستفيد الوحيد هم أولئك الذين يرون في تفككها انتقاماً من هزائم الماضي. لا تُخاض الحروب اليوم بالأسلحة فقط، بل بالخداع، بالخطاب المموّه بالمبادئ، وبإشعال فتيل النزاعات الصغيرة حتى تغرق البلاد في أتون حرب لا نهاية لها.

ولأن الفوضى ضرورة استراتيجية للبعض، فإن سوريا لن تُمنح فرصة الاستقرار. ستبقى الحروب مشتعلة، والجماعات المتشددة تُستخدم كأدوات، ثم يُلقى بها إلى الهلاك حين تنتهي صلاحيتها. حتى إسرائيل، التي قد تبدو غير معنية، تعرف أن بقاء هذه الجماعات على حدودها خطر، لكنها تعلم أيضاً أن استنزاف سوريا هو الهدف الأهم.

أما الإعلام، فقد أصبح جزءاً من هذه اللعبة، يغذي الكراهية، ويصب الزيت على النار، ليركز الجميع على الصراعات الطائفية، بينما تُرسم الخرائط الجديدة في الخلفية. إن كانت هناك خطة لتمزيق سوريا، فإن الإعلام أحد أسلحتها الفتاكة، حيث يتم توجيه الجماهير بعيداً عن الحقيقة، وجرّها إلى معارك جانبية، بينما يتم تنفيذ المخططات الكبرى دون أن يلاحظ أحد.

في النهاية، سوريا اليوم ليست سوى مشهد جديد في مسرح الصراعات الدولية. المخططات تُنفذ بدقة، والدماء تُراق بلا حساب، فيما يُترك الشعب السوري وحيداً في مواجهة أقدار رسمت له سلفاً. فهل يبقى رهينة هذه الدوامة، أم أنه سيجد طريقه للخلاص، ويكسر الحصار الذي فرض عليه؟ هذا هو السؤال الذي لم يحن أوان إجابته بعد.

وفي خضمّ هذه العواصف التي تجتاح الجوار، على العراق أن يكون كالسفينة الراسية التي تُحكم قبضتها على دفة التوازن. عليه أن يعزّز وحدته الوطنية، ويُرسّخ الحوار بين مكوناته، ويبني مؤسسات قوية تُجسّد العدل والمساواة. كما يجب أن يعمل على تعزيز الاقتصاد، وتحسين الأمن، وترسيخ ثقافة التسامح والتعايش. بهذه الخطوات، يصبح العراق حصناً منيعاً ضدّ الفوضى، وواحة أمان في قلب العاصفة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
أفتح الدردشة
اهلا بك في وكالة الراصد نيوز24
كيف يمكنني مساعدتك؟